بنفسج

في غرف الأسيرات: ماذا تعكس مرآة الزنزانة؟ [2]

الأربعاء 02 نوفمبر

الأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي
الأسيرات في سجون الاحتلال الإسرائيلي

"أقلام التلوين، نستخرج منها اللون، إن كانت أقلامًا خشبية نأخذ قطعة اللون من داخلها، نطحنها، وقد نحتاج أولًا لنقعها في الماء لتليينها، وإن كانت ألوان (فلوماستر) نضغط عليها حتى نحصل على السائل الملون الموجود داخلها، المادة الملونة التي حصلنا عليها، مطحونة كانت أو سائلة، نضعها على القليل من الفازلين، وبذلك يصبح بين أيدينا مستحضر تجميلي ينقذنا في الأزمات"... هكذا فاجأت الأسيرة المحررة "صابرين سالم" رفيقات السجن بطريقة صنع أحمر شفاه، مقابل هذه الوصفة البسيطة كانت ردود الفعل كبيرة، سعادةٌ غامرة بين الأسيرات اللواتي أخذّن يحيينها على هذا "الاختراع".

هل هذا "الاختراع" مهمٌ إلى هذا الحد؟ هل تهتم امرأة تعاني ويلات السجن بالتجميل؟... لو لم يكن الأمر مهمًا لما استخدمه الاحتلال في التضييق على الأسيرات، هنّ إناث، والأنثى تطلب الجمال في كل وقت، تنتظر دومًا أن ترى شابةً متألّقة عندما تنظر للمرآة، هذه فطرتها، وهذه وسيلتها للترفيه عن نفسها ولتحسين مزاجها في كثير من الأوقات.

بالإضافة إلى ميل الأنثى الفطري للاهتمام بمظهرها، فالأسيرة تحتاج لذلك أكثر من غيرها، حيث ظروف الاعتقال السيئة تنعكس على البشرة بالشحوب، ولو رآها أهلها في الزيارات وجلسات المحاكم بهذا الشكل لزاد قلقهم عليها. في السجن، تهتم الأسيرات بمظهرهن، تمامًا كاهتمامهن به أيام حريّتهن، الملابس، والشعر، ومستحضرات التجميل، والاكسسوارات، وتوفر مستلزمات الأناقة والتجميل أو غيابها، ينعكس على نفسيتها ومزاجها، خاصة لمن اعتادت استخدامها.

| ملابس الأسيرات في السجن

خزانة ملابس.png
تمنع مصلحة السجون إدخال بنطلونات الجينز والقمصان بالأزرار وتسمح بالبنطلون القماش للأسيرات لذلك خزانتهن الخاصة بسيطة

هكذا إذًا لا تهمل الأسيرة أنوثتها، تغذّيها وتدللها بما أُتيح لها من إمكانيات جدّ محدودة، وهذا ليس غريبًا على من تهتم بكل التفاصيل، العلم والثقافة وتنمية المهارات وتطوير العلاقات، وغير ذلك الكثير. ويمكن القول إن الاهتمام بهذه الأمور ليس خيارًا ولا ترفًا، وإنما هو ضرورة يفرضها السجن، إذ تحتاج الأسيرة التأقلم مع واقعها، وشغل وقتها، والحصول على قسط من الترفيه، فهي بدون ذلك ستقضي فترة حكمها في عدّ الأيام وستستلم لكل المشاعر والأفكار السلبية.

تبدأ الأسيرة أغلب أيامها بالاستحمام، وتنتقي ملابس نظيفة، وتسرح شعرها، وقد وتضع شيئا من مستحضرات التجميل... إلى هنا تبدو الجملة عادية تماما، لكن بالنظر إلى التفاصيل، سنجد الفرق واضحًا بين الأنثى في السجن وخارجه، وهذا ما سنتناوله بالتفصيل في السطور التالية.

_______________________________-64.png

الاستحمام بحدّ ذاته ليس أمرًا سهلًا البتة، والحديث فيه طويل، لكنه ليس موضوع هذا التقرير، لذا ننتقل لعملية اختيار الملابس، لا تقف الأسيرة أمام خزانة مكدّسة تنظر إليها بمللٍ ثم تقول: "ليس عندي ما أرتديه" كما حال كثير من الإناث، فخزانتها مجرّد ثلاثة رفوف حديدية فيها عدد محدود جدًا من القطع التي أوصت أهلها على اختيارها بمواصفات خاصة. إدخال الملابس للسجن، أو ما درجت تسميته بـ"التدخيلة"، لا يتم إلّا في أوقات محددة، وبعدد قليل من القطع لكل أسيرة، وأحيانا تفرض مصلحة السجون على الأسرى إخراج الملابس القديمة للتمكن من الحصول على ما أرسله لهم ذووهم.

تلك القطع القليلة يجب أن تتوفر فيها عدّة مواصفات، أولها ما يشترطه الاحتلال، فمثلا تمنع مصلحة السجون إدخال بنطلونات الجينز، والقمصان بالأزرار، وتسمح بالبنطلون القماش وبعض أنواع السترات. ثانيًا، ثمة مواصفات تطلبها الأسيرات، فهن بحاجة لملابس مريحة وعملية، وجميلة في نفس الوقت، بالإضافة إلى تخصيص قطعة للمناسبات والأعياد.

_______________________________-65.png

بناء على ما سبق، غالبًا ترتدي الأسيرات "بيجامات"، ولكن الأمر يختلف في الأعياد، والاحتفالات التي تنظمنها بمناسبات مختلفة كزواج قريب إحداهن، أو تخرجهن من دورة عقدنها بأنفسهن، ففي هذه الأيام ترتدين تلك القطعة الجميلة التي خبأنها للمناسبات. من لطائف الحديث عن الملابس في السجن، أن الإيثار يتجلى هنا، فالأسيرات لا يقبلن أن يأتي العيد وإحداهن لا تملك ملابس جديدة، سواء كان ذلك لأسباب مادية منعت أسرتها من شراء طلبها، أو لعدم وجود "تدخيلة" لها قبيل العيد.


اقرأ أيضًا: "روح الأنثى"... "طبطةٌ" على النفْس في السجن [1]


الحلّ، أن توصي أسيرة أخرى أهلها بتوفير قطعة لرفيقتها في القدر، فيشتريها الأهل على نفقتهم الخاصة، وتستقبلها الأسيرة ضمن العدد القليل المسموح إدخاله، أي أنها تتنازل عن قطعة جديدة لها بنفسٍ راضية. أمر الملابس لا يتوقف عند شرائها وإدخالها للسجن، فللملابس القديمة شأن آخر، خاصة إذا اشترطت مصلحة السجون إخراجها لإدخال الجديدة.

اكسسوارات السجن.png
تأخذ الأسيرات الملابس المهترئة ويعملن على إعادة التدوير ويأخذن الخرز والخيوط الملونة ويصنعن إكسسوارات

في هذه الحالة تقسّم الأسيرة ملابسها حسب حالتها، الجيّد منها تنقله إلى "العام"، وهو مكانٌ وتضع فيه الأسيرات ما لا تحتجنه، أو أشياء تشترينها للتبرع بها، ويمكن لكل الأسيرات الاستفادة مما يوضع في "العام"، خاصة الأسيرات الجديدات اللواتي يصلن السجن بعد فترة التحقيق ولا يكون بحوزتهن شيء. أما الملابس المهترئة، فتخضع لإعادة التدوير، تأخذ الأسيرات ما عليها من خرز وخيوط ملونة، وشيئا من أقمشتها، وكل ما يصلح ليكون مادّة خام لصنع الاكسسوارات، ومشغولاتٍ يدوية أخرى.

| وصفاتٌ تجميلية عند الأسيرات

مكياج1.png
يًضيق الاحتلال على الأسيرات في إدخال المستحضرات التجميلية الخاصة بالبشرة ولا تتوفر في كل السجون

من المعلوم أن المرأة كثيرًا ما تستخدم شعرها في تغيير حالتها النفسية، بقصّه أو صبغه مثلًا، لذا يتكرر في أغلب صباحات السجن مشهد تجمّع عدة أسيرات حول واحدة تجيد تصفيف الشعر، ليحظين بطلّةٍ جديدة، ولو كانت مجرّد جديلة مختلفة. زيت الزيتون، رغم كونه غير أصلي، كان أداة العناية بالشعر الوحيدة المتاحة للأسيرات. والصبغة قلّما تتوفر، وبدرجة أقل كريمات الفرد، وقبل السماح بشراء مجفف شعر لكل قسم، كانت الأسيرات تستخدمن مكواة الملابس في تصفيف شعرهن أيام الأعياد والمناسبات.

قصّ الشعر متاحٌ لكن في ساعات محددة يكون فيها المقص بحوزة الأسيرات، حيث تسمح إدارة السجن بتزويدهن بمقص واحد في الثامنة صباحًا ويتم إرجاعه في الرابعة والنصف عصرًا. المستحضرات الخاصة بالبشرة والوجه محدودة للغاية، وهي كريم للوجه وآخر للجسم وكحل أسود، وفازلين، هذه الأصناف لا تجتمع في مكان واحد، فإن توفرت في سجن تغيب من الآخر، والموجود منها رديء وسعره مرتفع.

والأسيرات متأكدات أن التضييق في هذه الأمور متعمد، خاصة أن ثمة منتجات تجميلية معروضة للبيع للجنائيات فقط، وقد طلبت الأسيرات مرارًا السماح لهن بالشراء منها لكن بلا جدوى. لو توفر أكثر من منتج تجميلي، لا تسمح إدارة السجن إلا بنوع واحد لكل أسيرة، لذا فكل منهن تشتري نوعًا مختلفًا عن غيرها، ليصبح لديهن عدة أنواع تستخدمنها معًا.

_______________________________-62.png

الأسيرات لم يعتدن الاستسلام أمام الرفض، لذا صنعن زينتهن بأنفسهن، بالمواد المتوفرة بين أيديهن. من المواد الخام لخلطات السجن التجميلية، الفازلين وأقلام الألوان، يتم دمجهما بالطريقة المذكورة في بداية التقرير، ويكون المنتج النهائي ألوان متعددة لتزيين الشفاه، لكن إعداد هذا المنتج يتوقف على سماح الاحتلال للجنة الدولية للصليب الأحمر بإدخال الألوان للأسيرات. وأحيانًا تكتفي الأسيرات بأقلام الحبر لتزيين الوجه، خاصة قبل معرفتهن لطريقة استخدام الفازلين.

من طرائف ذكريات هذه الخلطة في السجن، بعد سنة من اهتداء الأسيرات لها، وقبل شهر من تحرر من ابتدعتها، أعلنت الشركة المصنّعة للفازلين عن منتجٍ ملّون، فكانت صاحبة الوصفة تبدي حزنها وتتبادل النكات مع الأسيرات حول "سرقة اختراعها". للفازلين استخدام ثانٍ، إذ يتم خلطه مع قطعة صغيرة من أحمر الشفاه حال توافره، فينتج لون جديد.


اقرأ أيضًا: تفاصيل خاصة: الأسيرة الحائض في سجون الاحتلال [3]


نفس الطريقة السابقة ولكن بمقادير مختلفة يزيد فيها الفازلين كثيرا عن أحمر الشفاه، تعطي منتجا آخر، تستخدمه الأسيرات كبديل عن "كريم الأساس"، حيث يعطي الوجه لونا جميلا ويخفي ما اعتراه من تعب. ثمة وصفة أخرى لصناعة الكحل، وهي تبليل قطعة قماش بزيت الزيتون، ثم حرقها مع وضع مقلاة فوقها بمسافة محددة، الطبقة السوداء التي تتراكم على المقلاة بفعل الزيت المحترق هي الكحل، تجمعها الأسيرات في غطاء قنينة، وتستخدمن أعواد الأسنان لوضعها في العين.

_______________________________-63.png

ولمزيد من الاهتمام، تصنع الأسيرات أقنعة للوجه لتنظيف البشرة، وشدّها، وإخفاء علامات الإرهاق والتعب، ويستخدمن في ذلك مكونات عديدة، منها القهوة، والعسل، والكركم. الأناقة تقضي التزيّن بالاكسسوارات، وهي أحد المنتجات الكثيرة التي تبدعها الأسيرات بإعادة تدوير كل ما تقع عليه أياديهن، مثل أقمشة ملابسهن القديمة وما عليها من خيوط ملونة وخرز، بالإضافة إلى مستلزمات الأشغال اليدوية التي تسمح مصلحة السجون بإدخالها على فترات متباعدة.

بهذه المواد يتم صنع العقود والخواتم وربطات للشعر، بعضها تتزين به الأسيرات، وبعضها تهدينه لأسرهن. الجمال الذي بذلت الأسيرة جهدًا فيه، تراه في مرآة الزنزانة، لكن يصعب أن ترى فيها ما أحدثته أيام السجن، فرصد التغيرات يحتاج لعين لم ترَها لفترة طويلة، هي ليس في حياتها سوى الأسيرات اللواتي ترينها كل يوم، لذا يكاد لا يرى هذه التغيرات سوى الأهل في الزيارات.

| الأسيرات الفلسطينيات بكامل أناقتهن

مكياج2.png
تستخدم الأسيرات المستحضرات التجميلية البسيطة في الأسر والتي يبتكرنها من أبسط الإمكانات

أفضل الملابس، والمستحضرات التجميلية البسيطة، لا يتم استخدامها في كل وقت، لأنها لا تتوفر بسهولة، تخصصها الأسيرات للأعياد، والاحتفالات، بالإضافة إلى أيام زيارات الأهل لهن، وجلسات المحاكم التي يراهن فيها ذووهن. في اليوم الذي يسبق الزيارة، تجهّز الأسيرة ملابسها، كطفل ينام محتضنًا ملابسه ليلة العيد، ليس فقط لسعادتها برؤية أحبتها، بل أيضا لتمنحهم الطمأنينة وتشعرهم أنها بخير، ولذات السبب تستخدم من تلك المستحضرات ما يخفي الشحوب والإرهاق.

إحدى الأسيرات لم تجد وقتًا لتبديل ملابسها قبل الزيارة بسبب مشكلة في القسم، فاضطرت لمقابلة أهلها بثوب الصلاة، فذعروا حين رأوها وأمطروها بالأسئلة للاطمئنان عليها. طبعا، الأمر نسبي، يتفاوت من واحدة لأخرى، وهذا عائد لطبيعة شخصية الأسيرة واهتماماتها قبل اعتقالها، فتجد أسيرة لا تكترث كثيرا للمظهر، فيما أسيرة ثانية تقصّ إعلانات مستحضرات التجميل من الصحف وتعلّقها على خزانتها الصغيرة، تنظر لها كل يوم وتردد: "سأخرج، وسأستخدمك"، وغيرها ترفض استخدامها لو توفرت، حتى في حفل الإفراج عنها، فهي تحب شكلها بلا إضافات، وحصولها على خاتم أو عقد أهم من الكريمات، ولا تستطيع أن تبدأ يومها دون تبديل ملابس النوم، ولا تقبل أن تراها أسيرات الزنازين الأخرى إلا بكامل أناقتها وكأنهن ضيفات.


اقرأ أيضًا: فوبيا الارتباط بالأسيرات... حقيقة أم خرافة؟


لو كان اهتمام الأسيرة بمظهرها صفرًا، فهذا لا ينفي أن السجن يسلب منها شيئا من أساسات أنوثتها، وهذا شيء يسير من تفاصيل كثيرة تغيب عمّن ينظر من بعيد فلا يرى إلا الصورة الكبيرة لمعاناة السجن وفقدان الحرية.

 المعلومات الواردة في هذه المادة خلاصة حوارات مع الأسيرات المحررات صابرين سالم، وعطايا أبو عيشة، ولينا جربوني، وإسراء لافي.